بدأت أسعف حبر أقلامي الذي أوشك على النفاذ وأنا أكتب قصة التاريخ في وطني ...
وتعرقت أناملي من الارهاق والتعب .
جلست لبرهه وبدأت التقط أنفاسي التى تشبه الى حد كبير تلك الأنفاس التي التقطتها سماء غزة بعد الحرب .
وأخذت أتأمل نافذتي ،،،
وأنصت الى موسيقى الليل المعتادة ؛
طائرة تزن بين ضباب الغيم كالعادة ...
وبعض الطلقات البعيدة المستنفرة ...
سأنتشل ذاكرتي من بين ركام العشرين يوماً
سأقرأ اللحظات بقرب ...
ببطء ...
وبصمت ...
ولكن من أين أبدأ ؟!!...
سأبدأ من تلك الساعة المعلقة على الجدار ؛
حيث العقارب السوداء تلاحق بعضها كأنها تسابق الأقدار....
صوت المذياع الذي أوشكت بطاريته على النفاذ ....
وعتمة المنزل المرعبه ، وشتاء الليل القارس...
وصمت يتسلل الى نفسي ويرعبها ، ويتركها مترقبة طوال الليل ؛ تنتظر مجيء النهار
وفي الخارج
خلف ذلك الجدار؛
القصف والضرب ...
والعنف والحرب ...
الدخان والنار ...
كان ذلك خلف الجدار
وفي نفسي حرب مشابهة ؛ يعزلها جدار جسدي المرتجف.
وكما يتصنع جسدي القوة من الخارج ، تصنعت جدران المنزل القوة أيضاً
وكأنها بتلك المكعبات المتراصة والملتصقة تعزلنا عن قسوة القدر ...
وذلك المنعطف القاسي...
ولكن أين المفر !!
لربما لم تقتحم القذائف منزلي كما اقتحمت منزل جارنا العزيز !
ولربما لم يفارق منزلي أحبائي كما فارقت المنازل ساكنيها !
ولكن لسعتنني نيران الخوف
والترقب ..
والقلق ..
والجوع ..
والعطش ..
والألم ..
لن أتحدث طويلاً فالتفاصيل تهرب من صفحاتي !
فهي تؤلم ذاكرتي ..
تمزقني ..
وتؤجج مأساتي .
انتهت الحرب !!
وبدأ الناس يعودون لحياتهم ...
وبدات أنا ألملم صور الحياة التي تبعثرت في داخلي .
وأخذت أعد جداول الوقت وأستعد لاستقبال الحياة من جديد
وشعرت حينها أن حياتنا كتاب ..
وأنني اليوم أطوي صفحة في حياتي .
نظرت تلك التجربة الرائعة...
مبنى محكمة بلدية غزة المدمر
خرجت في جوله للتعرف على المبنى ومشاهدته عن قرب
فالصورة لاتكفي والواقع له مدلول أكبر
توجهت للمكان ... شارع عمر المختار
وقفت في ذلك الشارع العريق
أنظر ذلك المبنى
وقد لاح بعيني الركام والدمار
لم تتمالك مشاهد الحرب نفسها !! فعادت تصارع الذاكرة ...
ولكن لم تكن هنالك عقارب سوداء!!
فلم يكن هنالك جدار
حتى الثواني هربت!
ولاذت بنفسها من عنف الاقدار
وقفت صامتة !
والصمت الأسود يعود مجدداً
وتوقفت الصورة أمامي .. لأبدأ الوصف ..
أمسكت قلمي وورقة بيضاء وأخذت أجمع حروفي ، وأكتب ؛ واليكم كتابات أوراقي :
عيني أو عين الكاميرا تنازعتا في مدلول الصورة !!
فالكاميرا رسمت ملامح الأحجار المتراكمة والمكدسة والمبعثرة كما بعثرالتدمير الهوية
وملامح المبنى الذي تجزأ لشطرين ؛ شطر به سطور أوراق أحترقت أجزاءها
وشطر آخر احترق بالكامل ولم يبقى منه الا رماد الأثر!
أما عيني الدامعه اليائسة فنظرته ، وقد لاحت بها ذكريات الحرب
ورصدت أحجار الطوب في استقامتها فوجدت الاستقامة قد تكسرت وتلاشت..!
حتى ظلال الضوء المستقيم تكسرت ؛ وهي تصطدم بذلك الركام القاسي !
الشبابيك والشرفات التي كانت تجادل الضوء والرياح عند أعتابها
غابت اليوم ، والريح نامت ، والضوء هوى في غيابها
فلم يعد هنالك خارج ولا داخل
ولاقطر مرور عند العتبات ينظر سماحها !
الزخارف سرق الدمار ايقاعها الجميل ، وأجبرها على الرحيل
والأبواب بعد أن دخلها مغتصبيها ... تخلت عن مهمتها ، وغادرت مكانها
فالجدران التي تحملها ؛ أثقلها الدمار فسقطت
والأبواب أثقلها رحيل حاضنها فرحلت .
العين في عتمة هذه الأجواء أغمضت لتريح دمع العين ، وتتركه ينساب تائها على وجنتي
ولكن تلك العتمة التي احتضنها جفني العين لم تسلم من شريط الذاكرة المؤلم !
فافترقت جفون العين هاربة من أقدارها نحو النسيان
حملت امتعتي وكاميرتي وهممت بالرحيل لاكنب اليكم هذه الكلمات التي تقرأونها
أعلم أن احساس الداخل أكبر في محتواه ، ولغه الوصف لن تكفيه
ولكن لنكسب شرف المحاولة فحسب ؛
غادرت المكان وأشعه الشمس تغزو طريقي ؛ حينها علمت وأدركت أن التاريخ سيغزو مفكرتي
وأوراقي ، وسيسعد بها كثيراً ان وجدها تلملم مابعثره الدمار ، وتصيغ الصورة بقالبها الجديد
وانا الآن ؛ أغادر مكتبي لأن الحبر نفذ ، والأوراق ملت من يدي المكبه في الكتابة ؛ ولكن
رصيد الكلمات لم ينتهي ... والحكاية مازالت مستمرة .